Friday, December 17, 2010

البستان

بقرا دلوقتي ’البستان‘ لمحمد المخزنجي و قلت أكتب رأيي عن أكتر قصة عجبتني في الجزء الأول و هي ’العميان‘.
القصة بتبدأ بوصف الكاتب لمقهى للعميان على كورنيش النيل و للمحيط الخارجي للمقهى ده، و بعدين بياخدك لداخل المقهى لتتأمل معاه الجو الداخلي المظلم و الزبائن المستديمين للمقهى من العميان، و تتأمل أسلوبهم في الكلام و اللعب و تناول المشاريب.
بعد كده، و من خلال عين أحد العميان، بيحكيلك مشهد فقدانهم لبصرهم:
في أحد الأزمنة، وافق المحافظ المرتشي على طلب أحد رجال الأعمال لإقامة فندقين سياحيين على شاطيء النيل في مكان مقابل للمقهى. مكان كان فيه المكتبة القديمة بمحتوياتها القيمة النادرة و شجرة الكافور العتيقة إللي إنكتب عليها تاريخنا بل و شاركت هي في صناعة التاريخ ده. تجاهل المحافظ كل ده و قرر إزالة الشجرة و المكتبة. و تجاهل المحافظ تقارير المهندسين إللي ورد فيها عدم صلاحية الأرض المكونة من ترسبات طمي النيل لإقامة المشروع. و فعلًا بدأ التنفيذ: تم نقل محتويات المكتبة ليلًا، ثم إزالة مبنى المكتبة في نهار اليوم التالي، و الناس بتتفرج بحسرة و يأس
"و ظلوا مع ذلك رافضين أن يصدقوا أن الدور ذاهب إلى الحديقة ليدمرها، و يدمر الشجرة الكبيرة التي تتوسط الحديقة. الشجرة التي تقف في قلب ذكريات صباهم جميعًا و قلب ذكريات المدينة"
يقال إن عبدالله النديم كان يتسلل إلى هذه الشجرة في أيام هروبه و يختفي وسط أغصانها و يبقى بها لأيام، و إنه كتب فيها جزء من كتابه ’تاريخ مصر في هذا العصر‘. و عليها تاريخ محفور بضخامة هو 19 مارس 1919 يقال إنه كتبه الثوار أيام ما إستخدموا الشجرة لربط سلك معدني بعرض كورنيش النيل لإصطياد جنود الإحتلال. و عليها كتابة بالفرنسية تقول "خاب سعيك يا دوجا.. لن نسلم مصطفى.. لن نسلم العديس" و هي موجهة إلى الجنرال إللي عينه نابليون لحكم المدينة و القبض على الثوار ’علي العديس‘ و ’مصطفى الأمير‘. و يحكى إنه أم كلثوم و السنباطي غنوا في ظلها، و هيكل كتب تحتها، و عبد الناصر أمر موكبه بالتوقف عندها علشان يحيي الشباب إللي طلعوا غصون الشجرة و كانوا بيهتفوا بإسمه، و إن العشاق على مر الزمان حفروا على جذعها أساميهم و الرسم الشهير للقلب المرشوق بسهم الحب.
بدأت البلدية تقطيع الأشجار إللي حواليها و الناس لسه مش مصدقين! و بعدين طلع عمال البلدية بسلالم عربيات المطافي و بدأوا بتقطيع الفروع لتسقط و تسد طريق الكورنيش و بسببها يتم تحويل المرور للشوارع الداخلية. رجعت العصافير و الطيور مالقتش مسكنها، رفضت تسيب المكان و فضلت تطير حوالين الشجرة لحد ماتعبت و نامت على رصيف الكورنيش تدهسها الأقدام.
وقف الآلاف من عشاق الشجرة يراقبوا إللي بيحصل، أسلاك و حبال متينة مربوطة في الفروع العالية و تشدها البلدوزارات، بينما يعمل منشار كهربائي ضخم في جذع الشجرة
"جبل يوشك أن يهوى، بينما العمال يفرون من حوله. عشرات السنوات تسقط. عمر كامل، بل أعمار عديدة.
و حدث الصرير الهائل المخيف و الطقطقات التي طمست من حولها كل صرخة أو شهقة أو سباب. أغمض كثيرون أعينهم من هول المنظر و إنكمشوا على أنفسهم و ارتعشوا بأثر القشعريرة التي سرت في الهواء لحظة، و ارتطم زمن كامل بسور الكورنيش الحديدي فهشمه و تحطمت بلاطات الرصيف الخرسانية و انصكت الأسماع"
عليت أصوات الطيور و بعدين بدأت تتقاتل و ينزل دمها على رؤوس المشاهدين. ثم بدأت تنقض على الناس.. تنهش عيونهم، مش إيديهم ولا دراعاتهم، كانت مصرة على نقر العيون و نهشها.
"مناقير كحراب مدببة و آلام كالبروق. ثم كانت ظلمة ولا شيء غير أصوات طيور مهتاجة و رفرفة أجنحة و صرخات بشر يتلاطمون. ولم يجدوا في هذا الوقت مكانًا قريبًا يحتمون به غير جوف المقهى القديم الذي إندفعوا إليه بغريزة تحديد الإتجاهات الصاعدة لتوها من قرارة عتمتهم المباغتة"
و مع مرور الزمن، حول صاحب المقهى الأدوات كي تساعد العميان و كمان جابلهم جرسون أعمى. و لحد دلوقتي يمر على المقهى أحد الأشقياء و يقف عند الباب و يقلد صوت الطيور المهتاجة، فيجن العميان و يفزعوا و تتخبط أياديهم أمام وجوههم علشان تحمي عيونهم التي لم يعد لها وجود.
قصة رائعة الحقيقة. المخزنجي حكى عن جاني و مجني عليه، و عن قضية و حُكم، و عن قاضي. و عن فكرة. سألت نفسي:
  • هل الطيور لما تعالت أصواتها بعد سقوط الشجرة كانت بتحكم في أمر البشر؟ و لما تقاتلت و نزل دمها على رؤوس الناس، هل إللي إتقتل منهم إتقتل بسبب إنه تحيز لينا و دافع عن تخاذلنا و جبننا؟
  • لما الطيور إقتلعت عيون الناس، مش يمكن ماكانتش بتعاقبهم؟ مش يمكن شافت إنه مش لازمانا حاسة البصر مادام مش بتوجهنا لفعل الصواب و الوقوف في وش الظلم؟ مش يمكن كانت بتحاول تخلق لنا عذر لوقوفنا عاجزين عن مقاومة الشر؟ 
  • هل إستمرار عذاب العميان و إهتياجهم عند سماع أصوات الطيور لحد دلوقتي هو بسبب إنه الطيور زمان أخدت حقها منهم لكن الحياة نفسها لسه، لسه حابة تشوف جزاء تخاذلهم؟ ولا علشان تبقى عبرة حية لينا لو حد مننا قرر مايصدقش الحكاية القديمة؟ 
  • ليه الطيور نهشت عيون الناس إللي بتتفرج و مانهشتش عيون العمال إللي أسقطوا الشجرة بإيديهم؟ هي الطيور إعتبرت العمال منفذين و بس – مالهمش يد أو قرار؟ و الناس مش كده، الناس قرارهم و فعلهم بإيديهم لكنهم تخاذلوا؟
عجبني وصف الكاتب لحجم جذع الشجرة:
"أما جذعها فقد كفاه بالكاد فصل كامل من الأولاد كانوا في رحلة مدرسية، و راق لهم أن يشبكوا أياديهم معًا حتى يحيطوا بالشجرة"
قبلها كان قال إن الشجرة، على عكس باقي أشجار الكافور، بتحتفظ بلحائها و كتاباتنا إللي عليه. بتحتفظ بتاريخنا. فهل الأطفال كانوا بيحاولوا يحضنوا تاريخنا و يشموا ريحة أجدادنا و يستمدوا منها قوة للوقت الحاضر؟ ولا كانوا الأطفال بيحجزوا مكانهم في التاريخ على الصفحة دي من لحاء الشجرة، و بيسجلوا أولى ذكرياتهم؟
عجبني كمان إعتماد إسلوب الحكي من وجهة نظر الكاتب و هو ’جالس متأمل‘ لإن ده المطلوب من قاريء القصة كمان.. التأمل و الإعتبار.
و أخيرًا، عجبني التناقض إللي ظهر في تصرفات أبطال المشهد التالي:
"و توقف ركب عبد الناصر بإشارة منه تحتها حيث رفع وجهه المتهلل إلى أغصانها و حيا طويلًا إذ كانت الأغصان التي تظلل عرض الشارع مثقلة بالبشر يهتفون بإسمه عندما زار المدينة. و تغير مسار موكب السادات في اللحظات الأخيرة عندما جاء زائرًا حتى لا يمر تحتها، إذ شاع أن قناصًا يكمن له بين أغصانها العصية على التفتيش"
حابب أصدق إن المشهدين (لعبد الناصر و السادات) هما مثال على إختلاف شكل الشيء الواحد بإختلاف العيون إللي بتبصله. السادات شاف الشجرة الهائلة تهديد هائل، و عبد الناصر شافها مجموعة من الهاتفين بإسمه.. مش يمكن ماكانش فيه حد بيهتف ولا حاجة، زي ماهو محتمل إنه ماكانش فيه قناص مختبيء بين الغصون؟

3 comments:

  1. حمستني لقراءة الروايه دي ..

    ReplyDelete
  2. هو الكتاب كله حلو أوي بصراحة

    ReplyDelete
  3. ﻋﻨﺪﻙ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﺩﻱ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﻠﻲ ﺍﺣﺪﺍﺙ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ؟

    ReplyDelete